القوة الأوراسية والبحار الدافئة و الباردة

عملية “تجميع الامبراطورية” ينبغي أن تتوجه منذ بدايتها نحو غاية بعيدة وهي انفتاح روسيا على البحار الدافئة. فبفضل كبح التوسع الروسي في الاتجاهات الغربية، والشمالية الغربية بالذات، تمكنت انجلترا الأطلسية من الاحتفاظ بهيمنتها على جميع “الآماد الشاطئية” المحيطة بأوراسيا. ومن الناحية الجيوبولوتيكية كانت روسيا دولة “مكتملة” في الشرق والشمال حيث تطابقت حدودها السياسية مع الحدود الجغرافية الطبيعية للبر الأوراسي. لكن المفارقة تتمثل في كون هذه السواحل تتلاصق “بالبحار الباردة” وهو ما يشكل حاجزا منيعا دون تطوير الملاحة البحرية في المستوى الذي يمكن به بصورة جادة القيام بالمنافسة على البحار التي ترفع راية “الجزيرة الغربية” ( إنكلترا ثم أميركا فيما بعد). ومن ناحية أخرى فإن الأراضي الروسية، الشرقية والشمالية لم يجر استثمارها بصورة كافية بسبب خصائص طبيعية وثقافية، وكافة المشاريع المتعلقة بتكامل آسيا الروسية (بدءاً من تلك التي اقترحها الدكتور بادماييف على الإمبراطور الأخير وحتى خط  “بايكال-أمور” المرتبط ببريجنيف). تم تدميرها بفعل منطقية محيرة ما وتحت تأثير الجوائح التاريخية، العفوية منها والمقصودة.
ومهما يكن من أمر فإن إيجاد مخرج على البحار الباردة في الشمال والشرق يجب أن يتمم بالانفتاح على البحار الدافئة في الجنوب والغرب، وفي هذه الحالة فقط تصبح روسيا “مكتملة” من الناحية الجيوبولوتيكية، وفي سبيل ذلك دارت الحروب الروسية التركية الوفيرة الأعداد والتي لم يجني ثمارها لا الترك ولا الروس، بل الإنجليز الذين أراقوا دماء الإمبراطوريتين التقليديتين الأخيرتين من بين الإمبراطوريات الثلاث ( الامبراطورية الثالثة هي النمسا والمجر).
أما الإندفاعة الأخيرة نحو الجنوب الذي يمثل ضرورة حياتية لروسيا فكان التوسع الفاشل للاتحاد السوفياتي نحو أفغانستان. والمنطق الجيوبوليتيكي يظهر بنفس المعنى بأنه سيكون حتما على روسيا أن تعود إلى هناك على الرغم من أنه كان أفضل بكثير أن تعود في صورة حليف، وحام وصديق، من أن تعود في صورة جلاد غليظ القلب. وآنذاك فقط وعندما يصبح الخط الساحلي حدودا جنوبية وغربية لروسيا يمكن الحديث عن الاكتمال النهائي لبنيانها الاستراتيجي. وليس ضروريا إزاء ذلك أن يدور الحديث حول الفتوحات والتوسع وعمليات الإلحاق فالحلف الاستراتيجي المكافئ، القوي، المعادي للأطلسية، المعقود مع الدول القارية، الأوروبية منها والآسيوية، يمكن أن يكون كافيا لتحقيق هذا الهدف.
والخروج إلى البحار الدافئة يمكن التوصل إليه ليس فقط عن طريق الحروب الدامية، بل ومن خلال سلام عقلاني مفيد للمصالح الجيوبوليتيكة لجميع الدول القارية، لأن مشروع التكامل الاستراتيجي الأوراسي سيمكن جميع تلك الدول من أن تكون حرة ومستقلة أمام الجزيرة الأطلسية البديلة والتي وحدها بدورها مبدأ مونرو الاستراتيجي.
كانت الخلجان والبحار الدافئة محظورة على روسيا عندما لم يكن قد وجد بعد ذلك العامل الأطلسي الواضح، الولايات المتحدة، الذي يهدد مصالح أوروبا بأسرها وآسيا بأسرها وعندما كانت الدول الكبرى المختلفة في البر تنافس إحداها الأخرى على الأولوية في مواجهة إنجلترا وعلى القيادية في قضية الوحدة الترابية الاستراتيجية.
لقد سلط تطبيق مبدأ مونرو الضوء على مجموع الأهمية الجيوبوليتيكية لروسيا ولهذا صار الاتحاد مع روسيا الثابت الملح الواضح بالنسبة لجميع علماء الجيوبوليتيكا الواقعيين في القارة (مهما كان اللبوس السياسي الذي يلبسونه تبعا للظروف، وخطر العولمة والشمولية الأطلسية يفتح لروسيا من الناحية النظرية منفذا إلى البحار الدافئة عبر الحلف الذي يفرض نفسه بنفسه بين “قلب الأرض” و”الهلال الخارجي” ضد المحتلين القادمين من وراء البحار.