وهم "الشمال الغني" في الجيوبوليتيكا العالمية

غالبا ما تستخدم الجيوبولتيكا المعاصرة مفهوم "الشمال" مقترنا بصفة "الغني" – (الشمال الغني) بالإضافة إلى (الشمال المتطور).
وتحت هذا يجري فهم مجموع الحضارة الغربية التي تولي اهتماما أساسيا لتطوير الجانبين المادي والاقتصادي من الحياة. و"الشمال الغني" غني لا لأنه أوفر ذكاء أو عقلانية وروحانية من (الجنوب) بل لأنه يبني نظامه العام وفق مبدأ الحد الأقصى من المنفعة المادية، التي يمكن استخلاصها من قدرات المجتمع والطبيعة، من استغلال الموارد الإنسانية والطبيعية. و"الشمال الغني" مرتبط ارتباطا عنصريا بتلك الشعوب ذات اللون الأبيض للبشرة، وهذه الخاصية مكنونة في أساس التشكيلات المختلفة "للعنصرية" الغربية (والأنجلوساكسونية بصفة خاصة) بصورة مكشوفة أو مستترة. وانجازات "الشمال الغني" في الميدان المادي أدخلت في المبدأ السياسي بل و(العنصري) وبالذات في تلك البلدان التي كانت تقف في طليعة التطور الصناعي، التقني والاقتصادي – أي انجلترا، هولندا وفي فترة لاحقة ألمانيا والولايات المتحدة. وفي هذه الحالة جعل الرفاه المادي والكمي مساويا للمعيار النوعي، وعلى هذه القاعدة تم تطوير أشد الخرافات فظاظة حول "همجية"، و"بدائية"، "وتخلف"، و"لا إنسانية" الشعوب الجنوبية (أي التي لا تنتمي إلى الشمال الغني) ومثل هذه "العنصرية الاقتصادية" تجلت في هيئة أكثر وضوحا في الحروب الاستعمارية الأنجلوساكسونية، وفيما بعد دخلت صورة المزوَقة في الآفاق الأكثر فظاظة وتناقضا من الإيديولوجيا الوطنية –الاشتراكية. وهكذا فكثيرا ما جنح الإيديولوجيون النازيون إلى خلط التخمينات الغامضة المتعلقة (بالنوردية الروحية)  و (العرق الروحي الآري) بالعنصرية الفظَة، المركانتيلية، البيولوجية التجارية الإنجليزية الطراز. وعلى فكرة فإن الاستبدال لصفات الجغرافيا المقدسة بصفات التطور المادي – التقني كان يمثل بالذات الجانب الأكثر سلبية من جوانب الوطنية – الاشتراكية والذي أودى بها في النهاية إلى الإفلاس السياسي والنظري بل وحتى العسكري) ولكن حتى بعد انهيار الرايخ الثالث لم ينته هذا الطراز من عنصرية ( الشمال الغني) إلى الزوال من الحياة السياسية. بيد أن حامليه صاروا، بالدرجة الأولى، الولايات المتحدة وشركاؤها في أوروبا الغربية. وبالطبع لا يقع التشديد في الأطروحات العالمية الأكثر حداثة، والمتعلقة ب(الشمال الغني) على مسألة الصفاء البيولوجي والعرقي، ومع ذلك ف(الشمال) الغني، في علاقة مع البلدان المتخلفة والنامية في العالم الثالث لا يزال يستعرض فوقيته (العنصرية) المميزة بالنسبة للاستعماريين – الإنكليز مثلا هي مميزة لمتعصبي الوطنية الاشتراكية الألمان من "خط روزنبرغ".
وفي واقع الحال يعني (الشمال الغني) من الناحية الجيوبولتيكية تلك الدول التي انتصرت فيها القوى المناوئة بصفة مباشرة  للتراث، قوى الكم، المادية، الإلحاد، الاضمحلال الروحي والتحلل الروحي. (الغني) شيء يختلف جذريا عن (النوردية الروحية) عن (الروح الهيبيربورية). فجوهر الشمال في الجغرافيا المقدسة – هو سمو الروح على المادة والانتصار النهائي والشامل للنور والعدالة والصفاء على ظلمة الحياة الحيوانية، على استبداد الأهواء الفردية ودنس الأنانية المنحطة. وعلى العكس من ذلك يعني (الشمال الغني) الرفاه المادي المحض والمتعة، والمجتمع الاستهلاكي، والجنة المصطنعة الكاذبة الخالية من المشاكل بالنسبة لأولئك الذين نعتهم نيتشه (بآخر البشر). لقد ترافق التقدم المادي للحضارة التقنية بتخلف روحي مريع للثقافة المقدسة الحق، ولهذا، فمن وجهة نظر التقليد لا يمكن أن  يعد "ثراء" الشمال "المتطور" المعاصر معيار التفوق الأصيل على (الفقر) المادي والتخلف التقني "للجنوب البدائي" .
وفضلا عن هذا كثيرا ما يكون فقر الجنوب على المستوى المادي مرتبطا بالحفاظ في أقاليمه الجنوبية على الصيغ المقدسة حقا للحضارة، وهذا يعني أن ثراءه روحيا يستتر وراء هذا الفقر. وعلى الأقل فإن حضارتين مقدستين لا تزالان تواصلان وجودهما في أراضي الجنوب حتى هذا اليوم، على الرغم من كل محاولات "الشمال الغني" والعدواني فرض معاييره وطرق تطويره على الجميع. وهذان هما – الهند الهندوسية والعالم الإسلامي. أما بالنسبة لتقاليد الشرق الأقصى فثمة وجهات نظر متباينة، لأن بعضهم يرون حتى تحت ستار الخطابية (الماركسية) و(الماويَة) بعض المبادئ التقليدية التي كانت دوما محددة للحضارة الصينية المقدسة. ومهما يكن من أمر فحتى تلك المناطق الجنوبية المأهولة بشعوب تحتفظ بولائها للتقاليد المقدسة القديمة نصف المنسية فهي على أية حال إذا ما قورنت (بالشمال الغني) الذي أضفي عليه الإلحاد والمادية حتى النهاية القصوى تبدو شعوبا "روحية"، "صحية"، و"طبيعية" بينما يبدو الشمال الغني من وجهة النظر الروحية "غير سوي" على الإطلاق، ومريض .